[size=21][size=16][size=21]في تاريخ القصة العراقية
القصيرة
د.عمر
الطالب
إن القصة فن قائم
بذاته في الأدب العربي الحديث، وإن اشتملت المقامة في بداياتها على بعض اللمحات
القصصية لم تسلك سبيل القصة وإنما انحرفت إلى العناية بالأسلوب والتكلف في اللفظ.
وما يقال عن المقامة يقال عن القصص الشعبي كـ (عنترة ابن شداد وأبي زيد الهلالي
وسيف بن ذي يزن والزير سالم وغيرها).
وقد تأثرت مقامة أبي الثناء الآلوسي 1802-1854 المسماة (رسالة العشق)
بالمقامة واتفق الباحثون على ذلك1 واختلفت الآراء حول (الرواية الإيقاظية) 1919
لسليمان فيضي فمنهم من عدها مقامة ومنهم من عدها مسرحية وآخرون عدوها رواية أو
(مسرواية) لأنها مزيج من المسرحية والرواية2.
لا بد من طرح المشكلة التقليدية: هل نبتت القصة
العراقية تحت تأثير التراث القديم؟ نجيب: بأن القصة القصيرة في العراق كانت أثراً
من آثار اللقاء بين الشرق والغرب، ومنذ هذا اللقاء الذي دخلت فيه القصة أدبنا
العراقي يستطيع الدارس أن يجد تطوراً في شكل القصة القصيرة فبعد أن التصقت بالواقع
المباشر خلصت للفن الذي يقوم على الصنعة والحرية في اختيار الأداء.
أما العوامل التي أدت إلى ظهور
القصة العراقية فمتعددة ومختلفة منها أجنبي كاتصال العراق بالغرب وإرسال البعثات
إلى الخارج وتسرب الفكر الغربي إلى العراق والتأثر بالاتجاهات الأدبية الغربية
كالرومانسية والواقعية من جهة، والتأثر بالأقطار العربية المتقدمة كمصر ولبنان
وظهور قصصيين في هذين البلدين وإقبال محبي الأدب عليها إقبالاً شديداً بالإضافة إلى
تأثير الصحافة العربية بما قدمته من قصص عربية وقصص مترجمة مع اهتمام دور النشر
المصرية واللبنانية بترجمة العدد الوفير من القصص أما العوامل الداخلية التي ساعدت
على ظهور القصص العراقية فهي العامل السياسي الذي وجد فيه الكتاب العراقيون متنفساً
عما في صدورهم من ألم وحقد على المستعمرين وأتباعهم. كما ساعدت الصحافة على تشجيع
القصة العراقية وبالأخص المجلات الأدبية كمجلة الهاتف وجريدة البلاد.
ولعب التعليم دوراً كبيراً في
ظهور القصة والاهتمام بها إذ أقبل عليها المتعلمون إقبالاً شديداً. أما الترجمة فلم
يكن لها دور كبير في تطور القصة العراقية لأن المترجمين العراقيين قلة تشغلهم مهام
وظائفهم عن الانصراف إلى الأدب وبعضهم لا يجيد اللغة الأجنبية إجادة تامة أو لا
يجيد اللغة العربية ولا يحسن التعبير بالإضافة إلى تناولهم بالترجمة قصصاً مغمورة
يضيفون إليها ويوجزون حسب ما يهوون. ومن أهم المترجمين العراقيين في هذه الفترة
فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية محمود أحمد السيد وعبد الوهاب الأمين وذنون
أيوب وعبد الستار فوزي.
ويعد
محمود أحمد السيد رائداً للقصة العراقية القصيرة، فقد أصدر مجموعته (النكبات) عام
1922 وهي أقاصيص تتسم بخصائص الرواية المكثفة حيث تتسع فيها رقعتا الزمان والمكان
وتعدد الشخوص وتشعب الحدث وعدم انحصاره في زاوية معينة محددة مع امتلائها بالوعظ
والإرشاد وإطلالات الرأس. وآثار الكاتب الأولى (مصير الضعفاء، في سبيل الزواج،
النكبات) هي فصول مفككة وأسلوب ضعيف ووعظ مباشر بلغة مهلهلة. وقد تطور الكاتب في
مرحلته الثانية في كتبه (جلال خالد، الطلائع، في ساع من الزمن) فقد قوى أسلوبه وخلت
قصصه من الوعظ وقامت على الصنعة الفنية. ووصفت محاولات الكاتب أنها لا تقل عن تلك
المحاولات التي وجدت عند الرواد القصصين في مصر ولبنان. ومما لا ريب فيه أن الحس
الوطني الذي كان يجيش في نفس الكاتب وجد له خير متنفس في آثاره الأدبية المختلفة.
أما الأشكال القصصية التي ظهرت
في القصة العراقية قبل الحرب فهي سمات الرواية المكثفة في إنتاج الرواد كبعض قصص
محمود السيد وأنور شاؤول وذنون أيوب وجعفر الخليلي وسعيد عبد الله الشهابي، وتبدو
هذه القصص وقد قامت في حبكتها على حبكة الرواية لا حبكة القصة القصيرة فكثرة
الحوادث والمواقف والشخصيات تمتد في الزمان كما تمتد في المكان مع شيء من الضغط
والاختزال والشخصيات فيها نموذجية عامة لا تتصف بخصوصية الفرد المتميز وتأتي لخدمة
الحدث العجيب ولا تتطور لا من الداخل ولا من الخارج بالإضافة إلى امتلاء الحادثة
بالمصادفات والمفاجآت والافتعال.
ولم تخضع القصص عند البعض الآخر لتخطيط معين بل تجري القصة في حرية واسترسال
يسوق فيها الكاتب فكرة معينة أو يعكس حالة أراد نقدها وإظهار عيوبها ويتناول
مضموناً حراً كالشكل الحر الذي يحوي هذا المضمون فتضيع القصة بين الشكل الحر
والمضمون الحر ولا أستطيع القول إن ذلك الشكل الحر من أشكال القصة القصيرة الفنية
بل إنه في منزلة بين المقالة وبين القصة، ففيه من خصائص المقالة حرية الاسترسال
وعدم الاحتفال بالإطار وفيه من القصة ظواهر السرد ورسم الشخصيات وسير الأحداث كما
في بعض قصص ذنون أيوب ومحمود السيد ويوسف رجيب وضياء سعيد وجعفر الخليلي. كما نلمس
القصة (الصورة) عند عدد غير قليل من رواد القصة العراقية كجعفر الخليلي وضياء سعيد
ومحمود السيد وأنور شاؤول ويوسف رجيب وبعض أقاصيص ذنون أيوب وعبد المجيد لطفي وطابع
هذه الأقاصيص أن الكاتب يصور الواقع تصويراً حرفياً ويقدم قصة قوامها تسجيل عادات
وتقاليد البيئة والشخوص القصصية فيها غير ناضجة ولم تستكمل لمحاتها الإنسانية
المفردة ولم تخلص من السطحية. وإنها تخفي ذات الكاتب وراءها وتتسم بالموضوعية
الكاملة وتمتلئ أحياناً بفضلات الواقع لأنهم يفهمون القصة على أنها نقل حرفي عن
الواقع، ولهذا جانبوا الفن.
ولكننا نجد القصة الفنية عند محمود السيد في مجموعته (في ساع من الزمن) وعند
ذنون أيوب في مجموعاته (رسل الثقافة، الضحايا، صديقي، وحي الفن، برج بابل،
الكادحون، الكارثة الشاملة، حميات، العقل في محنته) وعند شالوم درويش في مجموعته
(أحرار وعبيد) وعند عبد الحق فاضل في مجموعته (مزاح وما أشبه) وعند صفاء خلوصي في
مجموعته (نفوس مريضة) وعند عبد المجيد لطفي في مجموعته (قلب الأم). فقد عرفوا بأن
الفن ليس تقليداً للواقع ولا نسخة أمينة عن الأشياء وإنما هو رؤية روحية تعيد خلق
الواقع من جديد بغناء أكثر أو خلق واقع أعمق من الواقع المباشر وأعظم ثراء ويسلك
الفن للوصول إلى هذا الواقع طريق الاختيار وطريق الصنعة. ومعظم قصصهم ذات اتجاه
واقعي تشوبه أحياناً رومانسية شفافة وتستقي الواقعية عندهم مادتها من حياة الشعب
وتتناول مشكلات المجتمع العراقي ومظاهر الفقر والبؤس التي ترزح تحتها الطبقات
العاملة.
ومجد الاتجاه
الرومانسي عند لطفي بكر صدقي وسليم بطي وعبد المجيد لطفي في مجموعته (أصداء الزمن)
وبعض أقاصيص محمود السيد وذو النون أيوب. حيث تمتلئ بالمصادفات والأحداث الغريبة مع
إغراق في الخيال واهتمام بالأسلوب والألفاظ والتقوقع في داخل الذات والكشف عن
انفعالاتها وآلامها.
القصة
العراقية القصيرة بعد الحرب العالمية الثانية:
لمسنا أن الاتصال الفكري بين العراق وأوروبا بعد
الحرب العالمية الثانية قد أثمر نتيجة لكثرة البعثات العلمية إليها ونقل التراث
الغربي إلى اللغة العربية وإتقان المتعلمين العراقيين اللغة الإنكليزية ومقدرتهم في
الإطلاع على الكتب والمجلات التي أخذت ترد إلى العراق بالإضافة إلى الدور الذي
لعبته الصحافة العربية وصدور عدد من المجلات الأدبية التي اهتمت بالقصة وأولتها
عنايتها. على أن دور الصحافة العراقية في تطور القصة العراقية بعد الحرب الثانية
كان ضعيف الأثر إذ انصرفت الصحافة العراقية إلى المجال السياسي انصرافاً كلياً بسبب
اضطراب نظام الحكم وتردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الانتفاضات الشعبية وإقبال كثير
ممن لا كفاية لهم على الاشتغال بالصحافة الأدبية. وكانت الصحافة العراقية سبباً في
إيجاد نوع خاص من القصة هو (القصة الصحفية) التي تعتمد على السرعة في البناء وإيثار
الحادثة لاستثمار مادة لها واعتمادها على السطحية في الأداء والدعاوي غير المباشرة
والإعلانية المستترة، ورأينا أن حركة الترجمة في العراق مرتبطة بالصحافة حيث شجعت
الصحف والمجلات التي تبنت القصة ترجمة القصص الغربية غير أن الترجمة لم تساهم في
تطور القصة العراقية القصيرة في العراق إلا مساهمة ضئيلة لا تكاد تذكر لقلة القصص
المترجمة لو قيست بحركة الترجمة العربية ويرجع السبب في ذلك إلى أن أدباء العراق
ترهقهم واجبات وظائفهم مما لا يدع لهم مجالاً لإنتاج خصب كما لم يهتم المترجم
العراقي بالأسلوب فهو يترجم بلغة هزيلة لا تخلو من أخطاء ولم يتقيد المترجم بالأصل
المترجم بل كثيراً ما يشوه الأسلوب ويمسخ القصة ويوجز ويطلب على هواه. وبعض
المترجمين لم ينقل القصص عن لغتها الأصلية لجهلهم بها كما فعل المترجمون للقصص
الروسي. كما أنهم لا يحسنون اختيار الكتب التي يترجمونها فيقبلون على الكتب السهلة
بالإضافة إلى أن دور النشر محدودة في العراق.
لذا كان للقصص المترجم في البلاد العربية أثر كبير
في تطور القصة العراقية بالإضافة إلى تأثير القصص العربي الحديث وإقبال المواطن
العراقي على هذه الكتب القصصية إقبالاً كبيراً. وكان لدار الإذاعة دور في تطور
القصة القصيرة في العراق وإن لم يكن دوراً رئيسياً. كما لا يمكن نكران تأثير رواد
القصة العراقية في قصصي الجيل الثاني وإفادتهم من أخطائهم حيث كانت الآفة التي تفسد
قصصهم اتخاذها منبراً للوعظ والإرشاد وإعطاء الدروس والعبر. إن الفرق بين القصة
القصيرة في العراق بعد الحرب الثانية وقبلها كالفرق بين الخلق غير الفني ووعي
الصنعة الفنية. ولا يعني هذا التكامل أن الشكل عامة مبرأ من العيوب خال من النقائص
ولكنه يشير إلى أنه زاد اقتراباً من الكمال وأضحى بالتالي أشد استيفاء لمعالم
الفنية والبناء.
وقد أسدى
الاتجاه الواقعي الذي بدأ عند الرواد خدمات جليلة لفن القصة القصيرة وكانت هذه
الواقعية مشوبة بالرومانسية تارة وبالمثالية والتعميمات والتجريد تارة أخرى.
وقد لمسنا هذه الواقعية
المشوبة بالرومانسية بعد الحرب الثانية عند الرواد مثال ذلك ذنون أيوب بالإضافة إلى
كتاب الجيل الثاني كفؤاد ميخائيل وشاكر السعيد ومير بصري وسليم مبارك وغيرهم.
كما يلمس الباحث في القصة
العراقية القصيرة بعد الحرب الثانية أشكالاً بدائية كشكل الرواية المكثفة التي برزت
سماتها في قصص صلاح الدين الناهي ومحمد بسيم ذويب وعبد الرزاق الظاهر وفتاة بغداد.
كما يلمس في آثار القصصين العراقيين بعد الحرب الثانية بعداً عن الشكل الفني إلى
جانب قصص فني لدى كاتب واحد في مجموعة واحدة.
أما القصة التسجيلية فقد امتد تأثيرها إلى ما بعد
الحرب الثانية وصبغت آثار بعض القصاصين العراقيين من الرواد مثال ذلك جعفر الخليلي
وذنون أيوب وعبد المجيد لطفي وصلاح الدين الناهي وشالوم درويش إلى جانب قصص بعض
كتاب الجيل الثاني مثل أدمون صبري ومحمود الدوري وخليل رشيد وسامي طه الحافظ
ونابليون حنا وغيرهم.
ونلمس
اتساع نطاق القصة الفنية بعد الحرب الثانية في كتابات الرواد كذنون أيوب وعبد
المجيد لطفي وعبد الحق فاضل وشالوم درويش وغيرهم بالإضافة إلى كتاب الجيل الثاني
كعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد روز نامجي ونزار سليم وعبد الرزاق الشيخ على
وشاكر خصباك وعبد الله نيازي وغانم الدباغ وغيرهم. ففي أقاصيصهم عنصر التركيز وعنصر
الإيجاز بالإضافة إلى التزام بعضهم بمبدأ الوحدات الثلاث واهتمام بعضهم بلحظة
التنوير.
والقصة العراقية
القصيرة جامعة لمختلف الاتجاهات سواء من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون فهناك كتاب
التزموا بالمشكلات والموضوعات المحلية الصرفة وآخرون توسعوا في موضوعاتهم ولم
يقصروها على الموضوعات المحلية والتزم قسم بالأسلوب الفصيح بينما تهاون آخرون
باللغة واستعملوا العامية في الحوار، والذين تأثروا بالأساليب الغربية استعاروا هذه
الأساليب في معالجة الموضوعات الاجتماعية وتخلوا عن المفهوم الكلاسي للقصة المبني
على العقدة والحل واستعاضوا عنه بما يسمى الانعكاسات النفسية الفردية كعبد الملك
نوري ومحمد روز نامجي وغانم الدباغ وغيرهم.
كما استعمل بعض الكتاب اللهجة العامية في الحوار لأن
فنية القصة –عندهم- تظل مبتورة مشوهة لو أنطق الرجل العامي الذي لا يعرف الفصحى
شيئاً من الكلام الفصيح المنمق على أساس أن الفن القصصي يجب أن يكون تعبيراً صحيحاً
عن واقع الأبطال الحقيقي من غير تزييف لأننا لو أعرنا لهجتنا وثقافتنا لمن نكتب
عنهم لما استطعنا أن نكون مخلصين في التصوير والإثارة وخلق الانطباع اللازم.
ومعظم الشخوص القصصية من الناس
العاديين ومن الطبقة الفقيرة والبرجوازية الصغيرة وتدور الأحداث فيها حول الفلاحين
والعمال والموظفين الصغار وقد تتدنى أحياناً إلى المشردين والمنحرفين والمرضى
نفسياً. ويتراوح التعبير فيها بين الأسلوب المنمق والأسلوب الهزيل ولكن القصاصين
يختلفون في الدرجة ففي حين ينزع بعضهم إلى اختيار اللفظة المنمقة يميل بعضهم إلى
البساطة في التركيب مع الاحتفاظ بالرونق بينما يبلغ درجة الحديث العادي عند البعض
الآخر.
ومن أبرز الاتجاهات
القصصية ظهوراً الاتجاه الواقعي وهو امتداد في بعض أشكاله للاتجاه الواقعي الذي ظهر
قبل الحرب الثانية عند ذو النون أيوب ومحمود السيد ولكنه تخلص مما كان يشوب
الواقعية من رومانسية شفافة، تستقي الواقعية عندهم مادتها من حياة الشعب وتتناول
مشكلات المجتمع العراقي. ومظاهر الفقر والبؤس التي ترزح تحتها الطبقات العاملة
وحياة الطبقة البرجوازية الصغيرة وهي لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة
وإنما همها فهم واقع الحياة وتفسيره وهو فهم وتفسير قد ينتج عنه الخير وقد ينتج عنه
الشر. وهي لا تصور واقع الحياة تصويراً تسجيلياً وإنما هي تفهم الحياة والأحياء
وتفسرها من وجهة نظر خاصة ترى منها الحياة.
ونجد عندهم الاتجاه الرومانسي إلى جانب الاتجاه
الواقعي وهي رومانسية مشوبة بواقعية لم تستكمل جوانبها المختلفة ونلمس في قصص هذه
الفئة هوة بين واقع الشخصية وأحلامها يمضها الواقع المؤلم ويحزنها ما فيه من قيود
وعادات وتقاليد تقف حائلاً أمام سعادتها وانطلاقتها فتهرب من عالمها هذا إلى عالم
الأحلام حيث تكسر فيه القيود وتحطم العوائق ولكنها ما تلبث أن تكشف الهوة السحيقة
بين الواقع والحلم فتنطوي على نفسها ويدفعها عجزها عن مصارعة الحياة إلى الإغراق في
الآلام والأحزان واجترارها.
كما في أقاصيص كارنيك جورج ومحمد بسيم ذويب ومحمود الحبيب وعبد اللطيف
الدليثي وغيرهم. ويدور محور القصة في الغالب حول أحداث غريبة تعتمد على المصادفات
المدهشة والنهايات المفاجئة من غير خضوع لتخطيط معين كما نلمس الطابع المحلي في
آثارهم ونتحسس الفرد العراقي المندفع بكل آماله وعقده التي ولدتها قيود المجتمع
الثقيلة. أما شخوصهم فهي مسطحة لا أبعاد لها مجردة من المسحة الإنسانية المادية أو
النفسية وكأنها دمية يشد الكاتب خيوطها وإذا ما تكلمت تلجأ إلى الخطابة واستعمال
الجمل الرنانة.
وأشهر الكتاب
المخضرمين جعفر الخليلي فهو قريب الشبه بأيوب في منحاه إذ اتخذ حوادث البلد ورجاله
مضموناً لقصصه بفارق واحد أن الخليلي لا تهمه السياسة بقدر ما تهمه معتقدات العامة.
ولا يعني الخليلي بفنية القصة العناية اللازمة فجاء نتاجه في الغالب الأعم خلوا من
شروطها تغلب عليه البساطة والسهولة الصحفية وقد يعثر القارئ بين حين وآخر على ضعف
في الأسلوب والتواء في التعبير مردهما السرعة التي يقتضيها عمله الصحفي. إنتاجه
وافر.
والقصة عنده حادثة أو
صورة اجتماعية وليس فيها لحظة مأزومة ولا عاطفة تتطور وتسلط عليها أنوار التحليل
والخبر عنده كالخبر في الحياة له بعداه الزماني والمكاني ولكنه لا يحتمل البعد
النفسي وله صدق في الواقع ولكنه لا يحتمل الدلالة والصور التي يرسمها ليست مقصورة
لذاتها وإنما تستهدف النقد الاجتماعي ليتخذ منها موقفاً معيناً من الحياة، يوجهها
إلى المجتمع تنقده وتكشف مواضعاته الأخلاقية الكاذبة بأسلوب ساخر فكه. في مجموعته
(من فوق الرابية) عدد كبير من القصص ذات لون واحد كتبت بأسلوب واحد تغلب عليه
البساطة والعجالة الصحفيتين ولم نلحظ تقدماً أو تطوراً في أسلوبه عما كان عليه قبل
الحرب الثانية وخير ما يقال في مجموعته (أولاد الخليلي) إنها حكايات وأخبار أريد
بها غاية تعليمية تستمد منها العبرة ولا تختلف مجموعته (هؤلاء الناس) عن سابقتها.
أما الأقاصيص التي نشرها الكاتب في الصحف والمجلات فهي أقرب إلى اللقطات العابرة
تنقصها الحبكة ويعوزها الفن القصصي. ويفقد الشكل عند الكاتب قيمته ولا يبقى في قصصه
بعد ذلك غير أسلوب السرد القديم إلى رواية الحادثة ونقل الخبر، وكل ما يهمه من عمله
القصصي هو الوصول إلى غايته النقدية الإصلاحية. وشخوصه بسيطة قدرية لا تعقيد فيها
ولا نوازع حادة تعتلج في داخلها إنها تأتي على مستوى القضايا البسيطة العادية التي
تعرض لها حوادثها لا مبرر لها سوى ما تشير إلى أن الحياة نفسها تحفل بأمثالها
وتزدحم بعديد من المخلوقات (الطافية) التي لا تزيدنا معرفة بطبيعتها ولا بخصائصها
الإنسانية العميقة الأغوار لسبب بسيط هو أن الكاتب لم يكن يلفته فيها غير سماتها
المادية الثابتة.
ونجد عند
الكاتب أسلوب الرمز في قصته الطويلة (في قرى الجن) والتي استعار لها جو ألف ليلة
وليلة وحاول أن يرسم مثلاً أعلى للحياة في السياسة والحب فكأنه في قصته يحدثنا عن
مدينة فاضلة يصورها في قرى الجن. وهذا اللون من التعبير يشيع في الناس عادة حين
تقيد حرياتهم وحين يمنعهم الخوف من الجهر بآرائهم.
ذو النون أيوب 1908:
لقد تطور أدب أيوب عما كان
عليه قبل الحرب من ناحية المضمون فلم يلتزم التزاماً سياسياً ولم ينصب نفسه واعظاً
ولم يحشر نفسه بين الشخصيات يوضح رأيه في المسائل المعروضة ولم يحرك شخوصه وينطقها
بما يريد إنما تركها تتصرف وتتحرك بصورة تلقائية طبيعية وطرق مواضيع مختلفة
اجتماعية وعاطفية وسياسية. ولكن هل رافق هذا التطور في المضمون تطوراً آخر في
الشكل؟ أستطيع أن أقول بصورة مبدئية إن هذا التطور تم ببطء في حدود فن الكاتب
القصصي ولكنه إذا قيس بالتطور العام الذي سار في شكل القصة العراقية فإنه لا يعد
تطوراً فإن قصصه الأولى اتسعت لعدد من الشخصيات والحوادث والمواقف وامتد فيها
الزمان والمكان أما القصص الأخيرة فإنها تقتصر على عنصر أو اثنين والحبكة زادت
إحكاماً وأصبحت خاتمتها تعتمد على نقطة تنوير تلقي ضوءاً كاشفاً على جميع أجزاء
القصة.
وطريقة الكاتب في
تقديم أبطاله تعتمد على الحركة والعمل لا على التحليل والوصف فإن تصرفاتهم هي التي
تكشف عن أعماق نفوسهم. وموضوعاته منتزعة من بيئته ومتعلقة بالواقع بشدة. والحديث عن
نتاج أيوب حديث عن أحوال العراق وشؤونه ومشاكله السياسية والاجتماعية بأسلوب قصصي.
في مجموعته (عظمة فارغة) يعود إلى مهاجمة المسؤولين الذين كانوا يخوفون الشعب بلهجة
أكثر صراحة وأشد عنفاً مما كان عليه قبل الحرب. وتعود مجموعته (قلوب ظمأى) إلى
الهدوء والطمأنينة واللا مبالاة وكأنها لهجة المصارع أرهقه طول المقاومة فبات لا
ينشد إلا الراحة والاستجمام. وشق في مجموعته (صور شتى) الحواجز الإقليمية التي أخذ
نفسه بها وانطلق يطرق موضوعات تشغل بال الإنسانية جمعاء. وبعد غيبة طويلة عن سوق
الأدب أصدر مجموعته الأخيرة (قصص من فيينا) ونجد فيها عبارات عذبة تقتحم أسلوبه إلى
جانب العبارات السياسية.
وشخوص أيوب دمى خلقها لتحقيق هدف معين أو فكرة معينة نظرتهم إلى الحياة خاصة
بهم هي النظرة التي يرى فيها الكاتب الحياة –بعضهم يميل إلى العزلة والانزواء
وآخرون يعيشون في بؤرة الحياة. يكافحون من أجل وجودهم وهم محبوبون لأنهم صريحون كما
أن الكاتب يؤمن بالأدب الهادف وبأن القصة لا تكتب ولا تقرأ لذاتها ولكن لإظهار عيوب
المجتمع ونقده. ويعتقد في قرارته أن النضال لا بد أن يثمر وأن القيمة الإنسانية لا
بد أن تنتصر. غير أن بناء القصة عنده بناء "الريبورتاج" فلا تصميم ولا تخطيط في
معظم الأحيان بل انسياب في عفوية وذهاب وراء مسارب جانبية وحوادث هامشية.
لغة الكاتب معبرة وإن كانت لا
ترتفع إلا قليلاً عن المستوى الصحفي، وقد يستخدم عبارات تقليدية يقتبسها من قراءاته
المتعددة وحافظته من الشعر العربي القديم أو النثر. كما تشيع السخرية في أسلوبه،
يستعين بها للنيل ممن يضعه هدفاً لنقده وقد يعمد إلى السجع ساخراً متندراً أو
يستعمل أحياناً الأمثلة العلمية.
عبد المجيد لطفي 1908:
نشر الكاتب عدداً كبيراً من القصص في الصحف والمجلات
ولم يجرؤ على جمعها في كتاب خوف الخسارة المادية وجلها أقاصيص سريعة تعتمد على سرد
الحادثة مع خلوها من التحليل والعمق. وتفتقر إلى روح الفن الذي يرفع القصة عن مقام
الحادثة الصحفية اليومية إلى المجال الإنساني وتنقصها تلك الحرارة التي تشعرنا بأن
لطفي يحس بما يكتب وليس متفرجاً عابراً يصف الحوادث. إنها مجرد ريبورتاجات صحفية
ملخصة أو منقولة خبراً إثر خبر، تتسم بطابع السرعة وعليها طابع التبليغ الصحفي الذي
يهتم أصحابه بواقعية اللغة ولهجة الحديث العادي. وأسلوب التشويق السهل. يبدع الكاتب
في رسم الصور الريفية ومظاهر الفقر ويخلع عليها من الحياة ما يجعل القارئ يمسها
بقوة وبدأ الكاتب يجفو تلك السطحية ليبدأ صفحة لامعة من نتاجه القصصي كما في
مجموعته الأخيرة (في الطريق) وهي تنحو نفس المنحى في تطوير البؤس والفقر والتشرد.
وتخلو كتاباته من السخرية والروح الفكهة التي نجدها عند أيوب والخليلي. كما أنها
خالية من السوداوية الجاثمة على كتابات عبد الملك نوري ومع أنه تقدمي الاتجاه ميال
إلى معالجة الأوضاع الاجتماعية الراهنة، إلا أنه يضحي أحياناً بالفكرة من أجل
الجمال الفني إذا اقتضى الحال وهو في هذا نقيض ذنون أيوب الذي يعتبر الفكرة أقدس من
الجمال الفني.
عبد الحميد فاضل 1910:
يصدر الكاتب أقاصيصه عن تجربة يعانيها ويعيشها
وشخوصه كلها من الطبقة البرجوازية الصغيرة وهو يعطف عليها ويصورها في نبل وطهارة
وطيبة. ويبني شخوصه بالتتابع مع نمو القصة، لا تهمه صراعاتهم النفسية إلا بقدر بناء
ملامحهم الفيزيكية مثل شالوم درويش تماماً.
ويعتمد الكاتب في التأثير على العناصر الأساسية
الخاصة بفن القصة كالحوار والسرد والشخصية ويعبر بلغة بسيطة يشيع فيها جو من الإلفة
والحرارة معاً.
ويرسم أحياناً
صوراً لذاتها لا لهدف معين بل يعطينا صورة تزخر بالعواطف المختلفة من حب وضيق وشره
وطمع دون ميل أو رغبة لشيء آخر. وتشيع السخرية الناقدة في كتاباته. السخرية من
التقاليد والمعتقدات والمثل التي تعم المجتمع العراقي وهو في نقده يشبه جعفر
الخليلي ولكنه يختلف عنه بالتزامه فنية القصة ومعالجته المشكلة بصورة أكثر عمقاً
وتأثيراً في النفس. ويؤخذ على الكاتب أنه لم يلتزم بمبدأ الإيجاز ولا بمبدأ التركيز
في بعض قصصه فقد يطيل ويفيض دون أن يخدم الحدث بهذا الإطناب مع ذكر أجزاء صغيرة
تعيق الحدث أكثر مما تطوره. ولمسنا أثراً للاتجاه الرمزي في مجموعته (حائرون،
طواغيت) وهي رمزية واقعية.
[/size][/size][/size]